إن الوقف نظام إسلامي فريد لحل الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فهو بحق من مفاخر الحضارة الإسلامية، والوقف بمعناه المبسط: أن يهب الإنسان جزءا من ممتلكاته كالدور والعمارات والمحلات التجارية والأراضي الزراعية وغيرها لجهة خيرية، ثم يقطع تصرفه عن الشيء الموقوف فتصير بذلك ملكا لتلك الجهة ولا يحق لمالكها الأصلي ولا لتلك الجهة بيعها ولا توريثها ولا رهنها ولا التصرف فيها بأي نوع من أنواع التصرف، بل يبقى خيرها مستمرا عبر العصور، وهذا كله تقربا إلى الله تعالى، إذ الوقف تجسيد فعلي للصدقة الجارية الواردة في الحديث النبوي: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
والوقف الذي نتحدث عنه في هذا المقال هو الوقف الصحي، أي الأحباس التي تخصص للرعاية الصحية، وقد يستغرب الكثير منا ويقول: أليست الأوقاف في المغرب مخصصة فقط للمساجد، فالجواب نعم لكن في وقتنا الحالي أما تاريخ المغاربة فلم يكن كذلك. فقد عرف تاريخ المغرب اهتماما كبيرا بالوقف على الرعاية الصحية، فكان مصدر تمويل لكل المجالات الصحية من خدمات للمرضى وتعليم صحي وبحث علمي في مجال الصحة، وكانت عائداته في بعض الأحيان تكفي لسد احتياجات الصحة وتفوقها فتصرف بعد ذلك على جهات خيرية أخرى، مما يبرز عظمتها وكثرتها.
أولا: أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية في تاريخ المغرب
إن كتب التاريخ العام وكتب النوازل الفقهية سجلت تحبيس المغاربة ممتلكاتهم على رعاية المرضى بالمغرب والأندلس قبل تأسيس المستشفيات، ونموذج ذلك أن عِيسَى بن سهل الأَسدي الجياني (413 - 486هـ) أورد في كتابه " ديوان الأحكام الكبرى" وجود بعض هذه الأوقاف، وذكر منهج القضاة في حفظها من الضياع، فقد كانوا يحرصون على تحديد مدة الكراء في أربعة أعوام فقط، ويمنعون الكراء الطويل الأمد لها أو الكراء غير المحدد بمدة، حتى لا يطول الوقت فيموت الشهود فيضمها المكتري أو ورثته لأملاكهم.
وقد فرق المغاربة في الوقف الصحي بين أنواع من المرضى، فقد كانت بعض الأوقاف مخصصة لمرض معين، وبعضها كان مخصصا لعموم المرضى، ومن بين هذه الأنواع نجد:
أوقاف على المصابين بالجذام: كان الجذام من الأمراض المستعصية التي كانت تحدث آثارا على الصحة الجسدية والنفسية للمرضى، وعلى العلاقات الاجتماعية، حتى كان يفرق بين المريض وزوجه وأولاده، ولهذا كانت خطة الأطباء والأمراء والقضاة والفقهاء في المرضى المصابين بالجذام تخصيص حارات لهم في ضواحي المدن الكبرى كفاس والقيروان ومراكش يعزلون فيها خشية انتقال العدوى، فتوفر لهم الأحباس كل ما يحتاجونه من مرافق وغذاء وموارد مائية وغيرها، وكانت تسمى هذه الحارات "حارة المجذومين"، و"ربض المجذومين"، وكذلك "ربض المبتلين". وقد أكد الإمام البرزلي (ت 841ه) وجود أحد هذه الأرباض وبمورد الماء المخصص له في نوازله فقال: "وقد كان بالقيروان ربض يسمى بربض المبتلين، وجعل لهم ماجل لم أزل أسمع بالقيروان يقال له ماجل المجذومين". وكان بعض المرضى المجذومين ينتقلون بين بعض الحواضر الكبرى فيمنعون من مخالطة السكان الأصحاء، فيذهبون إلى هذه الحارات المخصصة للجذمى، فإذا استوطنوا هذه الحارات لثلاثة أيام فما فوقها وقرروا استيطانها عُدُّوا من سكانها، واستفادوا من الأوقاف المخصصة لمرضى هذه الحارات، وكان هذا أمرا من قضاة المدن إذا تحققوا من الأمر، وبه حكم ابن سهل الأسدي في بعض مرضى ربض قرطبة.
أوقاف على المرضى المصابين باضطرابات نفسية وعقلية: إن الغالب على المستشفيات في تاريخ المغرب أنها كانت تضم تخصصات كثيرة، وكانت مكانا لتعلم الطب والصيدلة، غير أن بعض المستشفيات كانت تخصص حصرا للأمراض العقلية والنفسية، فرغم أن مستشفى سيدي فرج كان قبل عهد السلطان المريني أبي سعيد الثاني يضم تخصصات كثيرة إلا أن بيع هذا السلطان لأوقافه وأوقاف باقي مستشفيات فاس من أجل الإنفاق على حروبه جعل دوره الاستشفائي والإيوائي يقل، ثم بعد ذلك أصبح يضم فقط المرضى المختلين عقليا، فخصصت لهؤلاء المرضى أوقاف تقوم على شؤونهم، بل خصصت بعض الأوقاف على بعض الفرق الموسيقية التي تزوره مرة كل أسبوع للتخفيف على مرضاه وتهدئتهم. وإلى جانب مستشفى سيدي فرج وجد مستشفى "برج الكوكب" (المسمى حاليا سيدي علي مزالي) بباب عجيسة الذي كان هو كذلك مخصصا للمرضى المصابين بأمراض نفسية وعقلية، وكانت عائدات هذا المستشفى من الأوقاف المخصصة له.
أوقاف على بعض الخدمات الصحية النوعية كالختان: كان بعض السلاطين والأغنياء يخصون الأيتام وأطفال الفقراء بأعطيات من أجل الختان، فكان بعضهم يخصص يوم عاشوراء لختان هؤلاء الأطفال وتخصيص ملابس خاصة لهذه المناسبة ومنحهم بعض المال والطعام مثل ما كان يفعله السلطان المريني أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق.
أوقاف مؤنس المرضى: كان بمدينة فاس أوقاف قبل القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي خصصت لعشرة مؤذنين بجامع القرويين يقتسمون الليل بينهم، فيحيونه بالمناوبة، فيرددون أذكارا وأدعية بصوت جميل إلى طلوع الفجر، من أجل إيناس المرضى والغرباء ممن تسرق الأسقام والهموم منهم النوم ليلا، فيكون ذلك تخفيفا لهم من آلامهم.
أوقاف على عموم المرضى: كانت بعض الأوقاف مخصصة لعموم المرضى باختلاف أمراضهم، والغالب على هذه الأوقاف أنها كانت تخص المستشفى (المارستان) الذي يضم تخصصات كثيرة، فبعد تأسيس أول مستشفى بالمغرب في مدينة مراكش في عهد الدولة الموحدية بمبادرة من الخليفة يعقوب المنصور الموحدي سنة 585هـ، كانت غالب الأوقاف الموجهة للمرضى تخص مستشفى بعينه وكانت تسمى "أوقاف المارستان" أو "أحباس المارستان"، وكانت المارستانات لا تضمن فقط الرعاية الصحية، بل كانت تضم خدمات أخرى كإيواء الغرباء والمسافرين.
إن الوقف على الرعاية الصحية لم ينقطع طيلة تاريخ المغرب، قد ينقص متأثرا بظروف اجتماعية أو سياسية أو قرارات خاطئة في تدبيره، لكنه بقي مستمرا في تقديم خدماته، وقد تتبعت في كتابي "أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية: تاريخها وواقعها المعاصر وسبل تطويرها وترشيدها" أوقاف المغاربة على هذا النوع، قبل تأسيس المستشفيات وبعد تأسيس أولها في عهد الدولة الموحدية بمراكش سنة 585هـ، مرورا بعهد الدولة المرينية التي عرف فيها الوقف الصحي ازدهارا كبيرا حيث تم خلالها بناء الكثير من مستشفيات المغرب كمارستان سيدي فرج بفاس سنة 685ه بفاس، والمارستان القديم بسلا في حارة اليهود في عهد أبي عنان المريني، ومارستان الرباط في عهد السلطان المريني عبد العزيز الأول (1367 - 1372م)، ومارستانات مكناس وآسفي وتازة كلها من طرف أبي عنان المريني. واستمر هذا السلوك الراقي للمغاربة في عهد الدولتين السعدية والعلوية إلى ما قبل المرحلة الاستعمارية، وقد كان الوقف على المستشفيات في كل المراحل السابقة مقترنا بالوقف على المساجد، بل كان في بعض الأحيان يؤخذ من أحباس المسجد للإنفاق على المستشفى. لكن المغرب منذ دخول الاستعمار عرف الوقف الصحي انتكاسة بفعل استيلاء الاستعمار على الأوقاف عموما وأوقاف المستشفيات خصوصا مما أدى إلى تدهورها وتحول بعضها إلى قيسارية كما وقع لمستشفى سيدي فرج بفاس سنة 1944 .
ثانيا: الوقف الصحي بالمغرب في العصر الحاضر: أسباب التراجع ونماذج من إسهاماته في التكفل بالمرضى
إن لتراجع الوقف الصحي بالمغرب في عصرنا الحاضر جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية، فرغم خروج الاستعمار الذي كان السبب الرئيس في توقف موارد الوقف الصحي، إلا أن ذلك استمر إلى وقتنا الحاضر، وهذا التراجع أثر على قطاع الصحة بالمغرب وتم حرمان فقراء المغرب من مصدر قوي لتمويل خدمات الرعاية الصحية المقدمة لهم، كما أن ميزانية قطاع الصحة تحرم من تمويل مورد مساعد يتميز بالاستدامة. ورغم كل ذلك ما يزال الوقف يقدم خدمات مهمة للمرضى الفقراء بالمغرب خاصة في مجال التكفل بمرضى القصور الكلوي بالتخفيف على ميزانية الأسر ودعم ميزانية الدولة في هذا المجال.
1. أسباب تراجع الوقف على الرعاية الصحية بالمغرب
إن أسباب تراجع الوقف الصحي كثيرة، يمكن ذكر بعضها كما يأتي:
التدخل الفعلي للاستعمار الفرنسي في الأوقاف بالمغرب وخضوع مؤسسة "مراقبة الأحباس" للسلطات الفرنسة، فكان لذلك الأثر السلبي البالغ على حجم الأحباس، فقد تم تفويت الكثير من العقارات للفرنسين سواء بالاستيلاء المباشر، أو عبر كراء طويل الأمد يصل للثلاثين سنة، في أفق تفويتها للاستعمار. فكان لهذا تأثير كبير على مؤسسات الرعاية الصحية التي تم إهمالها وإنهاء أدوارها الإيوائية والعلاجية عبر سياسة نهب أوقافها من أجل إغلاقها بعد ذلك، وهذا ما وقع لكثير من المستشفيات كمستشفى سيدي فرج بفاس الذي تم إغلاقه وترحيل مرضاه لوجهة أخرى سنة 1944م.
اهتزاز ثقة المغاربة في مصير أحباسهم على الرعاية الصحية أو الاجتماعية نتيجة "اهتزاز بنية قطاع الأوقاف" بسبب ما خلفه الاستعمار من نهب لها أو تحوير لشروط المحبسين، أو صرف لعائدات هذه الأحباس لغير أهلها، أو خوفا من استيلاء الدولة عليها، أو قلة أمانة الناظرين عليها. وإن كان هذا الأمر يعم كل مجالات الوقف إلا أنه كان بارزا في مجال الوقف على الرعاية الصحية، فالواقفون مثلا يرون بأعينهم مصير ما حبسوا على مسجد أو مدرسة علمية، غير أنهم لا يدركون ما ستؤول إليه أحباسهم على مؤسسة صحية.
تولي الحكومة الإشراف على كافة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، فالدولة الحديثة ترى أن قطاع الصحة من اهم القطاعات التي تتولى الدولة التكفل بها، ولا تتركها للمجتمع المدني لاعتبارات كثيرة يطول ذكرها، فلم يبق للناس نماذج حية يقتدون بها لأعمال الوقف على الرعاية الصحية.
تغير نظام الوقف وتدخل الدولة المباشر في كافة الأوقاف وجعلها تحت تصرفها، مما يصعب معه تحبيس الناس لممتلكاتهم وإشرافهم المباشر عليها، أو تعيين ناظر عليها من اختيارهم في حياتهم أو بعد مماتهم كما كان الأمر في تاريخ المغرب، مما ولد إحجاما من المغاربة على الوقف على الرعاية الصحية. وقد أدركت الدولة المغربية مؤخرا هذا الإشكال، فحاولت تجاوزه بإصدار "مدونة الأوقاف الجديدة" التي تروم معالجة هذه الإشكالات وتبسيط المساطر، ولعل ذلك سينعش الركود الذي يعيشه واقع الوقف على الرعاية الصحية.
تراجع ثقافة الوقف على الرعاية الصحية بسبب قصور الدعاة والعلماء ومنابر الإعلام عن الدعاية لهذا النوع من الوقف، فالملاحظ اليوم هو اقتصار الوقف في فهم عموم المغاربة بل وفي إدراك بعض دعاتهم وعلمائهم على الوقف على المساجد، مما يحتم معه إعادة النظر في هذا الأمر وتوجيه المغاربة نحو آفاق جديدة للوقف ستكون الصحة من أولوياتها.
2. نماذج من إسهام الوقف في الرعاية الصحية للمرضى بالمغرب في عصرنا الحاضر
صندوق تدبير جائحة كورونا "كوفيد 19": هذا الصندوق أحدث بتعليمات ملكية في بداية جائحة كورونا، وأصدرته الحكومة في 17 مارس 2020 بموجب المرسوم رقم 2.20.269، وقد تم رصد غلاف مالي أولي لهذا الصندوق قدر بـعشرة ملايير درهم، وخصص أساسا "للتكفل بالنفقات المتعلقة بتأهيل الآليات والوسائل الصحية، سواء فيما يتعلق بتوفير البنيات التحتية الملائمة أو المعدات التي يتعين اقتناؤها باستعجال". والذي يهمنا من هذا الصندوق أنه فتح المجال للأشخاص الذاتيين والمعنويين من أجل المساهمة في هذا الصندوق، فقد فتحت وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة في 18 مارس حسابا بنكيا لتلقي التبرعات لهذا الصندوق، وفعلا كانت هبات المغاربة كثيرة حيث بلغت ميزانيته بعد أيام من إطلاق فتح باب التبرعات 23.5 مليار درهم، وهو مبلغ مهم أسهم في محاصرة الجائحة، حيث ساهمت فيه مؤسسات وطنية وأغنياء البلد، بل وأناس بسطاء، وتم اقتناء الكثير من الآليات والأجهزة كأجهزة التنفس الاصطناعي وأسرة الإنعاش وأجهزة التصوير الضوئي السكانير، وآلات تصفية الدم وغيرها، وهي آلات تعتبر من الوقف بحق لأن نفعها يدوم لسنوات وعقود.
جهود الوقف في التكفل بمرضى القصور الكلوي بالمغرب:
يعتبر مرض الفشل الكلوي المزمن النهائي من الأمراض الخطيرة، نظرا لكثرة وخطر مضاعفاته على جسم الإنسان ونفسيته، وهو في الآن نفسه من أكثر الأمراض ذات التكلفة الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، وأن ما يفوق ثلاثة ملايين مغربي يعانون من أمراض الكلي، منهم 32000 يخضعون لحصص تصفية الكلي. ويعد مرض الفشل الكلوي من الأمراض التي تكلف خزينة الدولة الشيء الكثير، فهو يكلف مبالغ كبيرة من ميزانية وزارة الصحة، وقد اعتمدت وزارة الصحة في التكفل بهؤلاء المرضى الفقراء على طريقتين:
الطريقة الأولى: التكفل بالمرضى الفقراء في مراكز تصفية الدم بالقطاع العام التابعة لوزارة الصحة.
الطريقة الثانية: عقد شراكة بين وزارة الصحة والقطاع الخاص من أجل التكفل بعدد من المرضى المحتاجين لحصص تصفية الدم ولا يتوفرون على تغطية صحية بل يستفيدون من نظام المساعدة الطبية للأشخاص المعوزين المعروف اختصارا بنظام "راميد" (ramed).
رغم المجهودات الكبيرة المذكورة التي تبذلها وزارة الصحة للتكفل بمرضى القصور الكلوي المزمن النهائي لفائدة المرضى الفقراء، والتكلفة المالية الكبيرة، إلا أن عددا كبيرا من المرضى لا يتم التكفل بهم إلا بعد مرور مدة من بداية تلقيهم لحصص تصفية الدم، نظرا لوجود لائحة انتظار يسميها أهل الاختصاص بـ"اللائحة السوداء"، وهي لائحة تضم المرضى الفقراء ممن يجب عليهم إجراء حصص تصفية الدم على حسابهم لمدة قد تصل لشهور، قبل أن يجدوا لهم مكانا في مراكز تصفية الدم أو في إطار الشراكة بين القطاع العام والخاص، مما يضطرهم للتوجه نحو مراكز تصفية الدم الخاصة وتسديد ثمن هذه الحصص التي تتراوح بين 700 و 800 درهم للحصة الواحدة، مما يضطر بعضهم لبيع بعض ممتلكاته، أو طلب المساعدة من المحسنين. ورغم حث وزارة الصحة المسؤولين إلى بذل جهود كبيرة من أجل عدم ترك لائحة الانتظار، إلا أن الطاقة الاستيعابية لمراكز الدولة، وشح الموارد البشرية بها، يحول دون الوصول لهذا الهدف. إن الهدف من ذكر ما سبق هو بيان خطر الفشل الكلوي وسرعة انتشاره، وتكلفته المالية المرتفعة على الدولة وعلى المرضى الفقراء وعائلاتهم، مما يجعل الوقف من أكبر الحلول الممكنة لدعم ميزانية الدولة، والتكفل بنفقات تصفية الدم لفائدة المرضى الفقراء الذين يعانون القصور الكلوي المزمن.
وبالفعل، فإن الوقف على التكفل بمرضى القصور الكلوي المزمن من أهم أنواع الوقف بالمغرب في العصر الحالي، ويتم هذا الوقف عبر طرق مختلفة وصيغ مختلفة إما من طرف أفراد أو من خلال جمعيات تعمل في المجال، ويشمل الوقف بناء مراكز تصفية الدم، أو تجهيزها بالمعدات والآليات الضرورية لاشتغالها، أو التكفل التام بالمرضى من خلال بناء المراكز وتجهيزها وتوفير الموارد البشرية الضرورية لاشتغالها. وسنذكر نماذج لكل نوع من أنواع هذا الوقف:
تكفل الوقف ببناء مراكز لتصفية الدم:
من النماذج المشرقة في مجال الوقف على مرضى القصور الكلوي، إقدام ابن مواطن مغربي يهودي ببناء مركز تصفية الدم يوصية من أبيه لفائدة المرضى الفقراء بمدينة مكناس، وتسليمه لوزارة الصحة، وهذا المركز هو الوحيد التابع للقطاع العمومي الذي يتكفل إلى اليوم بمرضى القصور الكلوي المزمن المعوزين الذين يتوفرون على نظام المساعدة الطبية "راميد"، ويبلغ عدد المرضى المكتفل بهم إلى 110 مريض معوز. ولا زالت إلى اليوم جداريتان بالعربية والفرنسية في مدخل مركز تصفية الدم بمكناس تؤرخ لهذا العمل النوعي وتذكر هذا الواقف وعمله.
تكفل الوقف بتجهيز مراكز تصفية الدم:
هذا النوع من الوقف موجود بكثرة، ويقدم عليه أفراد أو جمعيات مجتمع مدني بدعم من واقفين، ومن نماذج ذلك إقدام "جمعية إسعاد"() الرائدة في هذا المجال بتجهيز مركز تصفية الدم بالمستشفى الجهوي الغساني بفاس بآلات تصفية الدم وبمعدات ضرورية لاشتغاله. كما أقدم واقف إماراتي بتجهيز مركز تصفية الدم بعين عودة واقتناء سيارة إسعاف للمرضى، بعدما تم بناء المركز من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتم تدشين المركز بحضور وزير الصحة في التاسع من شهر فبراير الأخير من هذه السنة (2022).
بناء الوقف وتجهيزه لمراكز تصفية الدم وتوفيره للموارد البشرية اللازمة لاشتغاله:
إن هذا النوع الأخير من أهم أنواع الوقف على مرضى القصور الكلوي، لأنه يعفي الدولة والمرضى من تبعات العلاج، غير أنه قليل إذا تمت مقارنته بالنوعين السابقين، ومن النماذج الرائدة في ذلك إقدام مقاولين شقيقين بمدينة الريصاني (مولاي علي الشريف) بإقليم الرشيدية ببناء مركز لتصفية الدم بهذه المدينة الصغيرة، وتجهيزه بكل ما يحتاجه من آليات، ثم توظيف بعض الموارد البشرية (ممرضات) من أجل التكفل بالمرضى، وقد تم ذلك عبر جمعية "بسمة لمساعدة مرضى القصور الكلوي"، ونظرا لأهميته ونوعيته وكلفته المالية (23 مليون درهم)، فقد فاز المشروع بجائزة أفضل مبادرة عربية لسنة 2019 بالأردن، غير أن الموارد البشرية لم تكف، فتم التعاون بين وزارة الصحة والجمعية في هذا الشأن، وهو يقدم خدماته اليوم لمرضى القصور الكلوي بمدينة الريصاني والمدن الصغيرة المجاورة.
جهود الوقف في دعم البحث العلمي في مجالات الصحة:
رغم أن هذا النوع من الوقف قليل مقارنة بجهود الوقف في التكفل بمرضى القصور الكلوي، إلا أن مبادرة نوعية قام بها أحد الواقفين، فقد منح مواطن مغربي مؤخرا (يوم السبت 14 ماي 2022) قطعة أرضية قدرها خمسة هكتارات بصفرو القريب من مدينة فاس لكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان بفاس من أجل استغلالها في "البحث العلمي والتجارب الصيدلانية و الأعشاب الطيبة"، وقد تناقلت الخبر الكثير من وسائل الإعلام باعتباره مبادرة فريدة ونوعية. وجاءت هذه المبادرة نتيجة عقدنا لمؤتمر "الأوقاف والرعاية الصحية في التجربة المغربية والتجارب المقارنة" بنفس الكلية في شهر نونبر من السنة الماضية (2021)، وبفضل جهود عميد الكلية وطاقمها الإداري في حث المواطنين على دعم جهود البحث العلمي بذات الكلية.
ثالثا: الوقف الصحي بالمغرب: رؤية استشرافية
إن إسهام الوقف الصحي اليوم في الرعاية الصحية محتشم ولا يرقى لما يجب أن يكون عليه، بل وحتى لما كان عليه في تاريخه، مما يجعل إعادة دوره -أو بعبارة أدق: إعادة إحيائه- مما يجب أن تتكامل فيه الجهود الرسمية والشعبية، فإنه يمكنه الإسهام في مجالات كثيرة من الصحة إن توفرت ظروفه والإرادة الحقيقية في ذلك، لأن لنا تجارب دولية معاصرة في ذلك يمكن الاسترشاد بها.
إن الوقف يمكن أن ينخرط في مجال الوقاية من الأمراض، للحد من انتشار الأمراض كتوفير المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي في المداشر والقرى، ورعاية الأمومة والطفولة بتوفير اللقاحات الضرورية، ومحاربة الحشرات الناقلة للأمراض. كما يمكن للوقف أن ينخرط في محاربة أمراض مزمنة أخرى غير القصور الكلوي كالسكري وأمراض القلب والربو والحساسية وغيرها. وإضافة لذلك، يمكن للوقف بناء مستوصفات ومراكز صحية ومستشفيات متخصصة، أو تجهيزها، أو تزويدها بالموارد البشرية، أو توفير كل هذه الأنواع. كما يمكن للوقف الإسهام في التعليم الطبي والصحي عموما، من خلال الوقف على كليات الطب والصيدلة والمعاهد الصحية، من خلال توفير وسائل التعليم والمحاكاة والمراجع والكتب التخصصية.
وفي جائحة كورونا، ظهرت الحاجة لمراكز بحثية متخصصة في الأوبئة، وفي الأدوية واللقاحات الضرورية لمواجهة هذه الأخطار الصحية، وإن من أهم التحديات التي تواجه هذه المراكز هو التمويل، فيمكن للوقف تمويل المختبرات البيوطبية والصيدلية من أجل عمل هذه المراكز والمختبرات. كما أن من أهم المجالات الصحية التي يمكن للوقف دعمها هي مجال البحث العلمي في مجالات الصحة، لأنه السبيل لتطوير قطاع الصحة وجعل المغرب في ركب الدول التي تسعى للإسهام في تطوير الصحة، فالمغرب يخصص ميزانية متواضعة للبحث العلمي، فيمكن للوقف تجاوز هذا الإشكال والإسهام في تطويره ليعطي نتائج جيدة.
إن هناك الكثير من الوسائل لتطوير وترشيد الوقف الصحي بالمغرب، ذكرتها بتفصيل في كتاب "أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية"، من خلال تشجيع هذا النوع من الوقف وإنجاز عقود تتلاءم مع الشريعة الإسلامية، مع ضرورة الحرص على حفظ ممتلكات الوقف الصحي من الضياع من خلال الابتعاد عن العقود التي يمكنها الإضرار به، مع احترام الضوابط الشرعية والضوابط الاقتصادية في عملية استثمار الوقف.
المراجع:
- رواه مسلم في صحيحه، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح (1631).
- ديوان الأحكام الكبرى أو الإعلام بنوازل الأحكام وقطر من سير الحكام، عيسى ابن سهل الأسدي، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1428هـ/ 2007م، ص 580.
فتاوى البرزلي: 3 / 220 – 222. - انظر: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، أبو العباس الونشريسي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط – المغرب، ط1، 1401هـ/ 1981م: 7/ 482.
- انظر: دور الأوقاف المغربية في عصر بني مرين، محمد بن عبد الهادي المنوني، مجلة دعوة الحق، العدد 230 شوال-ذو القعدة 1403/ يوليوز-غشت 1983، الرباط- المغرب بالموقع الرسمي للمجلة:http://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq ).
- دور أوقاف المارستان في الحياة الاجتماعية بمدينة فاس، محمد اللبار، أعمال ندوة "فاس: التاريخ والتراث والإشعاع الثقافي"، كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس بفاس، 2008م، ص: 185.
- الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، علي بن أبي زرع الفاسي، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط المغرب، د.ط، 1392هـ/ 1972م، ص: 91.
- مدونة أحكام الوقف الفقهية، الأمانة العامة للأوقاف، إدارة الدراسات والعلاقات الخارجية، دولة قطر، ط1، 1439هـ/ 2017م، ص: 57. دور أوقاف المارستان في الحياة الاجتماعية بمدينة فاس، محمد اللبار، ص: 186
- انظر: تاريخ البيمارستانات في الإسلام، أحمد عيسى بك، دار الرائد العربي، بيروت- لبنان، ط1،،1401هـ/ 1981م ص 280. محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، الوقف في الفكر الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط- المغرب، 1416ه/ 1996م، ص 145. محمد حقي، مؤسسات العلاج بالمغرب والأندلس في العصر الوسيط، مجلة عصور الجديدة، ص 35.
- انظر مراحل الوقف على المستشفيات بالمغرب منذ تأسيس أول مستشفى إلى المرحلة الاستعمارية في كتابي: أوقاف المغاربة على الرعاية الصحية: تاريخها وواقعها المعاصر وسبل تطويرها وترشيدها، محمد مرزوك، شركة سجلماسة للطباعة والنشر، مكناس- المغرب، ط1، 2019م/ 1441ه، ص: 71-97.
- انظر: الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية، محمد المكي الناصري، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط المغرب، دط، 1412هـ/ 1992م، من ص 30 إلى 58.
- انظر: أعمال ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية، عبد العزيز بن حمود الشثري، والندوة نظمت بتاريخ 18 – 19 شوال1420هـ بمكة المكرمة، برعاية وكالة شؤون الأوقاف في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، ص: 792.
- انظر: أعمال ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية، ص:163.
- بادرت مجموعة من الدول إلى حث الدعاة والعلماء والمفكرين والباحثين إلى أهمية الوقف عموما والوقف الصحي خصوصا، فأعطى ذلك ثماره في الكثير من التجارب خاصة بدول الخليج كالكويت والسعودية وغيرهما.
- انظر بلاغا لرئاسة الحكومة المغربية بإصدار هذا الصندوق في موقع رئاسة الحكومة المغربية على الرابط: https://www.cg.gov.ma/ar.، تاريخ الاطلاع: 15/05/2022.
- انظر إعلان وزارة الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة لفتح الحساب البنكي ورقمه في موقع الوزارة على الرابط: https://www.finances.gov.ma/fr/Pages/detail-actualite.aspx?fiche=4968، تاريخ الاطلاع: 15/05/2022.
- انظر مقالا بعنوان: فيروس كورونا: موارد “الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا” بلغت حوالي 23,5 مليار درهم، ليوم 23 مارس 2020، بالبوابة الوطنية على الرابط: https://www.maroc.ma/ar، تاريخ الاطلاع: 15/05/2022.
- انظر تصريح للدكتورة أمل بورقية رئيسة الجمعية المغربية لأمراض الكلي بمناسبة اليوم العالمي للكلي (10مارس من كل سنة)، على موقع القناة الثانية على الرابط: https://2m.ma/ar/news، وكذلك حوار أجرته مع وكالة المغرب العربي للأنباء جهة الدار البيضاء على الرابط: https://www.mapcasablanca.ma، تاريخ الاطلاع: 19 ماي 2022.
- كانت آخر دورية وجهها وزير الصحة للمدراء الجهويين لوزارة الصحة من أجل إفراغ لائحة الانتظار من مرضى القصور الكلوي في هذه الأيام القليلة الماضية (13 ماي 2022) تحت رقم 32/ 2022، حيث طلب من المسؤولين إفراغ هذه اللائحة في مدة 15 يوما، وهو أمر يستحيل تحقيقه واقعا، نظرا لضعف إمكانيات المراكز من الآلات والموارد البشرية.
- هذا المواطن المغربي يدعى جاك يعقوب أوحنا، وهو مغربي ولد بمدينة مكناس سنة 1921 وتوفي سنة 2006، كما تذكر الجدارية الموضوعة أمام مركز تصفية الدم بمكناس.
- يرأسها البروفيسور طارق الصقلي أستاذ طب الكلي بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني بفاس، وهي تقوم بأعمال كبيرة في مجال تصفية الدم، وتقوم بتأطير ومواكبة جمعيات تشتغل في المجال.
- انظر مقالا للحدث في جريدة هسبريس الإلكترونية المغربية، ليوم 9 فبراير 2022 على الرابط: https://www.hespress.com، تاريخ الاطلاع: 20 ماي 2022.
- انظر تقريرا حول المركز من إنجاز القناة الثانية يوم 30 ماي 2019 على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=nMV_X4UfYhg، تاريخ الاطلاع: 20 ماي 2022.
- انظر مقالا إخباريا بعنوان "مواطن بصفرو يهب 5 هكتارات لكلية الطب والصيدلة"، في موقع مغرس ليوم 14 ماي 2022 على الرابط: https://www.maghress.com/rue20/603655، تاريخ الاطلاع: 20 ماي 2022